الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **
قال ابن العربي: وهذا نفيس جدًا وهو راجع في المعنى إلى الأول؛ لأنهم منصورون لو أطاعوا، والبلية جاءتهم من قبل أنفسهم في الأمرين. ومنها: أنه لا يجعل لهم عليهم سبيلاً شرعًا، فإن وجد فهو بخلاف الشرع. ومنها: أن المراد بالسبيل الحجّة، أي: ولن يجعل لهم عليهم حجة، ويبيّنه قوله تعالى: ، وَإِذَا قَامُوااْ إِلَى الصَّلَواةِ قَامُواْ كُسَالَىا يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً بيّن في هذه الآية الكريمة صفة صلاة المنافقين بأنهم يقومون إليها في كسل ورياء، ولا يذكرون اللَّه فيها إلا قليلاً، ونظيرها في ذمهم على التهاون بالصلاة، قوله تعالى: ، إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاٌّسْفَلِ مِنَ النَّارِ ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين في أسفل طبقات النار، عياذًا باللَّه تعالى. وذكر في موضع آخر أن آل فرعون يوم القيامة يؤمر بإدخالهم أشدّ العذاب، وهو قوله: وذكر في موضع آخر أنه يعذب من كفر من أصحاب المائدة عذابًا لا يعذّبه أحدًا من العالمين، وهو قوله تعالى: ، ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَـاتُ فَعَفَوْنَا عَن لم يبيّن هنا سبب عفوه عنهم ذنب اتخاذ العجل إلاهًا، ولكنّه بّينه في سورة "البقرة" بقوله: ، وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِى السَّبْتِ لم يبيّن هنا هل امتثلوا هذا الأمر، فتركوا العدوان في السبت أو لا، ولكنه بيّن في مواضع أُخر أنهم لم يمتثلوا وأنهم اعتدوا في السبت، كقوله تعالى: ، وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىا مَرْيَمَ بُهْتَـاناً عَظِيماً لم يبيّن هنا هذا البهتان العظيم الذي قالوه على الصديقة مريم العذراء، ولكنّه أشار في موضع آخر إلى أنه رميهم لها بالفاحشة، وأنها جاءت بولد لغير رشده في زعمهم الباطل لعنهم اللَّه وذلك في قوله: ، فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَـاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ لم يبيّن هنا ما هذه الطيّبات التي حرّمها عليهم بسبب ظلمهم، ولكنّه بيّنها في سورة "الأنعام" بقوله: ، رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ لم يبيّن هنا ما هذه الحجة التي كانت تكون للناس عليه لو عذبهم دون إنذارهم على ألسنة الرسل، ولكنّه بيّنها في سورة "طاه" بقوله: ، ياأَهْلَ الْكِتَـابِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ هذا الغلو الذي نهوا عنه هو وقول غير الحق هو قول بعضهم: إن عيسى ابن اللَّه، وقول بعضهم: هو اللَّه، وقول بعضهم: هو إلاه مع اللَّه سبحانه وتعالى عن ذلك كله علوًّا كبيرًا، كما بيّنه قوله تعالى: وقال بعض العلماء: يدخل في الغلو وغير الحق المنهي عنه في هذه الآية ما قالوا من البهتان على مريم أيضًا، واعتمده القرطبي وعليه فيكون الغلو المنهي عنه شاملا للتفريط والإفراط. وقد قرر العلماء أن الحق واسطة بين التفريط والإفراط، وهو معنى قول مطرف بن عبد اللَّه: الحسنة بين سيئتين وبه تعلم أن من جانب التفريط والإفراط فقد اهتدى، ولقد أجاد من قال: ولا تغل في شىء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى، وقولوا عبد اللَّه ورسوله".
وعلى هذا القول، فقوله: {وروح} معطوف على الضمير العائد إلى اللَّه الذي هو فاعل ألقاها، قاله القرطبي، واللَّه تعالى أعلم. وقال بعض العلماء: {وروح منه}، أي: رحمة منه، وكان عيسى رحمة من اللَّه لمن اتبعه، قيل ومنه: ، وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً المراد بهذا النور المبين القرءان العظيم؛ لأنه يزيل ظلمات الجهل والشكّ كما يزيل النور الحسي ظلمة الليل، وقد أوضح تعالى ذلك بقوله: ، فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ صرّح في هذه الآية الكريمة بأن الأختين يرثان الثلثين، والمراد بهما الأختان لغير أم، بأن تكونا شقيقتين أو لأب بإجماع العلماء، ولم يبيّن هنا ميراث الثلاث من الأخوات فصاعدًا، ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن الأخوات لا يزدن على الثلثين، ولو بلغ عددهن ما بلغ، وهو قوله تعالى في البنات: ومعلوم أن خلافهم في مثل هذا، لا أثر له، وبذلك تعلم أنه تعالى لما صرّح بأن البنات وإن كثرن ليس لهن غير الثلثين، علم أن الأخوات كذلك من باب أولى، والعلم عند اللَّه تعالى. تم الجزء الأول من الكتاب ولله الحمد.
32
|